الاشتباك السياسي:
مشروع قناة إسطنبول بين السلطة والمعارضة

الاشتباك السياسي:

مشروع قناة إسطنبول بين السلطة والمعارضة



يحتل مشروع قناة إسطنبول، التي ستكون بمثابة ممر ملاحي موازٍ لمضيق البوسفور، مكانة متقدمة في أجندة الحكومة التركية؛ فالحكومة تروّج للمشروع بوصفه مشروعًا قوميًا يخدم مستقبل إسطنبول وتركيا بشكل عام، وخصوصًا مع التقديرات التي طرحتها حول المكاسب الاقتصادية التي يمكن أن تتحقق من وراء هذه القناة. وبالرغم من هذا الترويج الحكومي للمشروع، فقد ظل واحدًا من قضايا الاشتباك السياسي الداخلي بين النظام الحاكم والمعارضة، إذ تصاعدت حدة المعارضة الداخلية للمشروع لاعتبارات عديدة، ساقها المعارضون للمشروع، وربما أهمها أنه سيؤدي إلى تغيير الواقع الديموغرافي والبيئي في إسطنبول، علاوة على ترويج المعارضين لاحتمالية أن يكون المشروع عاملًا للضغط على المواطن التركي العادي بحيث يتحمل تكلفة إنشاء هذه القناة.

خلفيات المشروع

لا تُعتبر فكرة إيجاد ممر مائي بديل لمضيق البوسفور جديدة، حيث كانت تطرح نفسها عقب كل حادث يقع في المضيق، كما شغلت الفكرة حيزًا كبيرًا من اهتمام النخبة التركية الحالية؛ فقد طرحها “بن علي يلدرم” إبان توليه وزارة النقل، عام 2009 في البرلمان. كما طرحها الرئيس التركي “أردوغان” بشكل عابر عندما كان رئيسًا للحكومة التركية عام 2011 حينما أشار إلى أن “تركيا تفكر في بناء طريق احتياطي لمضيق البوسفور الذي سيشكل عنصر قوة جديدة لتركيا وشريانًا إضافيًا للنقل البحري العالمي”، ووصفها بأنها ستكون قناة ضخمة الحجم لا تقارَن بقناتي بنما أو السويس، وذلك ضمن مجموعة من “المشروعات العملاقة” التي أعلن أنها تهدف إلى زيادة إجمالي الناتج المحلي التركي ليصل إلى تريليوني دولار بحلول 2023.

وفعليًا بدأ التخطيط للمشروع بداية عام 2018 عبر محاولات تركية للبحث عن التمويل المناسب لهذا المشروع بشكل هادئ؛ إلا أنه توارى خلف ملفات إقليمية كانت تشغل مكانة متقدمة في الأولويات التركية في السنوات الأخيرة، مثل: ليبيا، وسوريا، والعلاقات مع جماعة الإخوان، وغيرها من الملفات. وفي ديسمبر 2019، صرح الرئيس التركي بأن حكومته ستبدأ تنفيذ مشروع قناة إسطنبول قريبًا. ثم أكد في فبراير 2020 على المضيّ قدمًا في تنفيذ المشروع، وفي يونيو الماضي اتّخذت الحكومة التركية خطوة فعلية في المشروع، حيث حضر الرئيس التركي مراسم بدء بناء جسر أول فوق المجرى المقترح للقناة، ضمن 10 جسور أعلن وزير النقل التركي عن بنائها ضمن مشروع القناة.

وتُعد قناة إسطنبول، وفق المشروع المقترح، مجرى مائيًا موازيًا لمضيق البوسفور، ويربط بحر مرمرة جنوبًا بالبحر الأسود شمالًا، ويبلغ طوله 45 كلم، وعرضه 400 متر، ويصل في إحدى النقاط إلى كيلومتر، وعمقه 25 مترًا. وتقدر التكلفة المبدئية للمشروع بحوالي 15 مليار دولار. ومن المقدر أن تسمح القناة بمرور 185 سفينة يوميًا. وسيضم المشروع رصيفًا لرسو اليخوت والسفن، ومناطق ترفيهية، وميناء للحاويات ومناطق للخدمات اللوجستية. وتُرجّح تقارير إعلامية اكتمال بناء القناة خلال سبعة أعوام، منها عام ونصف للتحضيرات.

الدوافع التركية

هناك عدد من العوامل التي يمكن عبرها فهم الرغبة التركية في شق قناة إسطنبول، ومنها:

1- توظيف سياسي: مع اقتراب موعد الانتخابات العامة التركية المقرر إقامتها عام 2023، وفي ظل مطالبات من قوى معارِضة بإجراء انتخابات مبكرة؛ فإن حزب العدالة والتنمية التركية يخطط لبدء حملة انتخابية وإعلامية مبكرة. ويمكن فهم مجموعة “المشروعات القومية” التي تعمل عليها أنقرة، مثل مطار وقناة إسطنبول، في إطار معالجة الاستقطاب السياسي في الداخل التركي، وتدعيم شعبية الرئيس التركي وحزبه، حيث يسعى الرئيس التركي “أردوغان” إلى حشد الشارع التركي خلف المشروع كمشروع قومي يعوض بعض الإخفاقات والأزمات التركية، وخاصة الأزمة الاقتصادية، وانهيار الليرة وإخفاقات السياسة الخارجية.

2- فرص اقتصادية: تأتي قناة إسطنبول ضمن عدد من المشروعات التي تستهدف زيادة الناتج المحلي التركي، كما أن الإعلان عنها يأتي في ظل مصاعب اقتصادية تركية. وتستهدف الحكومة التركية من القناة تحقيق دخل سنوي قدره 8 مليارات دولار من التعريفات التي ستدفعها السفن مقابل المرور، حيث لن تخضع القناة لاتفاقية “مونترو” التي تنص على حرية الملاحة في مضايق البحر الأسود، ومن بينها مضيق البوسفور. كما تستهدف الحكومة التركية توليد قناة إسطنبول 20 ألف وظيفة في أعمال الحفر والبناء والأعمال المرتبطة بها.

3- إحياء عثماني: تُعد “العثمانية الجديدة” أحد المداخل المهمة التي يمكن عبرها فهم التحركات والسياسات الخارجية التركية في السنوات الأخيرة تحت قيادة الرئيس “رجب طيب أردوغان”، حيث يسعى “أردوغان” عبر سياساته في الشرق الأوسط وإفريقيا والبلقان إلى إحياء النفوذ العثماني القديم. وفي هذا السياق، فإن مشروع قناة إسطنبول يأتي ضمن مشروعات تركية متعددة ترتبط بسياسة “العثمانية الجديدة”، وتعزيز النفوذ التركي في المنطقة. ويدلل على هذا أن فكرة إنشاء ممر مائي موازٍ لمضيق البوسفور طُرحت لأول مرة في عهد الدولة العثمانية، وتبناها عدد من السلاطين العثمانيين.

4- الوطن الأزرق: كما هو الحال في الحضور التركي في شرق المتوسط، فإن مشروع القناة التركية يمكن فهمه في إطار استراتيجية “الوطن الأزرق” التي تستهدف تعزيز الحضور التركي في البحار المحيطة بها مثل البحر الأسود، وبحر مرمرة، وبحر إيجه، والبحر المتوسط، وتعزيز سيادتها على الممرات البحرية واستغلال تلك المناطق والموارد الواقعة فيها. وفي هكذا سياق، يمكن القول إن مشروع قناة إسطنبول يستهدف تعزيز الحضور الجيوسياسي التركي، وتعزيز الدور التركي في البحر الأسود وبحر مرمرة.

5- بديل ملاحي: تطرح تركيا قناتها الجديدة بوصفها بديلًا ملاحيًا لمضيق البوسفور، فبينما يبلغ متوسط وقت الانتظار للسفن الكبيرة التي تعبر البوسفور حوالي 14.5 ساعة، وقد يرتفع إلى أربعة أيام بحسب حركة الملاحة وظروف الطقس؛ فإن قناة إسطنبول تسعى إلى تقديم عبور سريع بمقابل مادي. كما يشير الرئيس التركي إلى أن القناة باتت هامة في ضوء تزايد متوسط السفن العابرة لمضيق البوسفور من 3 آلاف سفينة سنويًا خلال ثلاثينيات القرن الماضي إلى نحو 45 ألف سفينة حاليًا، وإلى 78 ألف سفينة بحلول عام 2050. واعتبر أيضًا أن “قناة إسطنبول ستكون أكثر أمانًا 13 مرة مقارنة بمضيق البوسفور، من حيث السلامة الملاحية”.

ويلاحَظ هنا أن أنقرة تحاول عبر هذا المشروع منافسة موانئ أخرى بالمنطقة، وذلك في ظل رغبة تركيا في التحول إلى مركز للتجارة الإقليمية، ولعب دور في التجارة الصينية الأوروبية.

6- ورقة جديدة: تحرص أنقرة على امتلاك أوراق استراتيجية مختلفة لخدمة سياستها الخارجية، والقضايا العالقة مع الدول الأخرى. كما تفعل عبر انخراطها في الملفات الإقليمية مثل: سوريا، وليبيا، وملف اللاجئين، وعلاقتها بجماعة الإخوان، وكذلك مثل دورها المطروح في الملف الأفغاني. وفي هذا السياق، يُرجّح أن تركيا تستهدف عبر قناة إسطنبول إضافة ورقة جديدة لأوراقها الاستراتيجية، وتعزيز دورها الإقليمي، خاصة في ظل الأزمات التي يواجهها الدور التركي في سوريا وليبيا. وعليه، يمكن أن تمثل القناة ورقة تفاوضية مع أطراف أخرى وعلى رأسها الولايات المتحدة وروسيا والدول الأوروبية.

تحديات رئيسية

بالرغم من مراهنة النظام التركي على مشروع قناة إسطنبول كمشروع قومي للدولة التركية، فإن هذا المشروع يواجه تحديات رئيسية على المستويين الداخلي والخارجي:

1- الداخل التركي: يواجه المشروع معارضة داخلية من سكان إسطنبول ورئيس بلديتها “أكرم أوغلو” المرشح لمنافسة “أردوغان” في الانتخابات القادمة 2023، حيث يدفع المعارضون للمشروع بأنه يحمل غايات وأهدافًا تخصّ عائلة الرئيس التركي والمقربين منه، تتعلق بصورة رئيسية بشراء أراضٍ مجاورة. خاصة في ظل تقديرات تشير إلى ارتفاع سعر المتر المربع في بعض المناطق من 25 إلى 800 دولار.

كما تقف الدوافع البيئية خلف رفض المعارضة التركية للمشروع، فرغم تأكيد الحكومة التركية بأن القناة الجديدة ستخفف من العبء الملاحي عن مضيق البوسفور، وتقلل من الانبعاثات والمخلفات التي قد تضر بالمناطق الأثرية والتراثية المحيطة؛ إلا أن المعارضة تجادل بأن القناة ستعزل المنطقة الأثرية في إسطنبول وتحولها إلى جزيرة. وتتخوف من أن تخل عمليات الحفر، التي ستزيل 2.5 مليار متر مكعب من التربة، بتماسك التربة على جانبي القناة، ويلحق الضرر بمخزون المياه الجوفية، مما قد يتسبب في انهيارات أرضية واحتمال حدوث زلازل. فضلًا عن مخاوف من تبوير الأراضي الزراعية وتأثيرات قطع أشجار غابات الشمال لحفر القناة على انخفاض مستويات الأكسجين في المياه وزيادة الملوحة، مما يؤثر على توازن الحياة البحرية، ويرفع من معدلات تلوث الهواء.

ورغم تصريحات الرئيس التركي حول بناء تجمعات سكنية على ضفتي القناة بسعة إجمالية تبلغ 500 ألف نسمة، مما سيخفف الضغط على مركز إسطنبول؛ فمن المرجح وفق تقديرات المعارضة أن تؤدي استثمارات مشروع القناة إلى زيادة تعداد إسطنبول بحوالي 1.2 مليون نسمة، وهو ما يتعارض مع الخطط الحكومية بإبقاء تعداد المدينة المكتظة عند 16 مليون نسمة. ومع الزيادة المتوقعة في عدد سكان المدينة، ستزداد البصمة الكربونية في إسطنبول بمقدار النصف تقريبًا. وقد وصف عمدة إسطنبول، أكرم أوغلو، مشروع القناة بأنه “مشروع كارثي سيتسبب في مجزرة بيئية”. كما أوضح أن القناة يمكن أن تجعل إسطنبول بلا حماية في مواجهة أي تهديد عسكري، في ظل صعوبة نشر قوات أو وحدات إنقاذ إذا ما تضررت الجسور فوق القناة أو مضيق البوسفور بفعل عمل عسكري أو كارثة طبيعية.

وتخشى المعارضة التركية أيضًا من تحمل المواطنين التكلفة الضخمة للمشروع على اقتصاد البلاد. ومع إشارة الرئيس التركي إلى تفضيله نموذج “البناء-التشغيل-التحويل” في تمويل المشروع، إلا أن المعارضة تعارض هذا النموذج لتراكم الديون على الأجيال المقبلة.

وتجدر الإشارة إلى أن هذه المواقف أفضت إلى تصادم بين النظام الحاكم والمعارضة، ولعل هذا ما اتضح في شهر إبريل الماضي حينما أصدر عدد من جنرالات البحرية التركية المتقاعدين بيانًا لرفض شق قناة إسطنبول، واتخاذ أي خطوات يمكن أن تقود للانسحاب من اتفاقية مونترو، وهو ما دفع السلطات التركية إلى إلقاء القبض على بعضهم، قبل أن تُفرج عنهم لاحقًا.

2- المواقف الدولية: بالرغم من أن مشروع القناة يمكن أن يحقق بعض المصالح الأمريكية والغربية، وذلك من زاوية زيادة فرص عبور السفن العسكرية لحلف الناتو إلى البحر الأسود بدون التقيد بقيود اتفاقية مونترو؛ فإن ثمة مخاوف أمريكية من أن تخدم القناة مشروع طريق الحرير الصيني وتُمثل تناميًا للعلاقات التركية الصينية، في ظل تقارير صحفية تحدثت عن تمويل شركات صينية للمشروع. حيث ترى بكين في المشروع فرصًا استثمارية، وإمكانية البحث عن صيغ مشتركة تجمع القناة الجديدة بمشروع طريق الحرير الصيني.

كما تخشى روسيا أن تمنح القناة التركية أنقرة مزيدًا من الهيمنة على حركة الملاحة الروسية، وأن تشكّل طريقًا جديدًا لدخول سفن حلف الأطلسي العسكرية إلى البحر الأسود. وعبّر عن هذه المخاوف الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين”، في أبريل الماضي، حينما أكد لنظيره التركي على أهمية الحفاظ على اتفاقية مونترو من أجل الاستقرار والأمن الإقليميين.

وبشكل عام فإن الموقف الدولي من قناة إسطنبول يرتبط بالموقف من اتفاقية مونترو ودعم استمرارها أو رغبة بعض الدول في تجاوزها. كما يرتبط بالتنافس الدولي في البحر الأسود، والفرص والتحديات التي تطرحها تلك القناة أمام القوى الدولية مثل الصين وروسيا والولايات المتحدة وحلف الناتو.